شرح حديث 1-3 من عمدة الأحكام
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَفِي رِوَايَةٍ:
«بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ
إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ»
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْعَمَلِ "
يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ خُصِّصَ بِذَلِكَ لَفْظُ " الْفِعْلِ "
لَكَانَ أَقْرَبَ. فَإِنَّهُمْ
اسْتَعْمَلُوهُمَا مُتَقَابِلَيْنِ، فَقَالُوا: الْأَفْعَالُ، وَالْأَقْوَالُ. وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي
فِي أَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْأَقْوَالَ أَيْضًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
«الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ.
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ. فَاَلَّذِينَ
اشْتَرَطُوا النِّيَّةَ، قَدَّرُوا: " صِحَّةُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ
" أَوْ مَا يُقَارِبُهُ.
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوهَا: قَدَّرُوهُ " كَمَالُ
الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " أَوْ مَا يُقَارِبُهُ.
وَقَدْ رُجِّحَ
الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزُومًا لِلْحَقِيقَةِ مِنْ الْكَمَالِ،
فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَلْزَمَ لِلشَّيْءِ: كَانَ
أَقْرَبَ إلَى خُطُورِهِ بِالْبَالِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ. فَكَانَ الْحَمْلُ
عَلَيْهِ أَوْلَى
«وَإِنَّمَا لِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى» يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ،
وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَيَدْخُلَ تَحْتَ ذَلِكَ مَا لَا
يَنْحَصِرُ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَمِنْ هَذَا عَظَّمُوا هَذَا الْحَدِيثَ. فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِي حَدِيثِ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ثُلُثَا
الْعِلْمِ
فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ "
اسْمُ " الْهِجْرَةِ " يَقَعُ عَلَى أُمُورٍ،
الْهِجْرَةُ الْأُولَى:
إلَى الْحَبَشَةِ. عِنْدَمَا آذَى الْكُفَّارُ الصَّحَابَةَ.
الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ.
الْهِجْرَةُ الثَّالِثَةُ: هِجْرَةُ الْقَبَائِلِ إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْلَمَ الشَّرَائِعَ، ثُمَّ
يَرْجِعُونَ إلَى الْمَوَاطِنِ، وَيُعَلِّمُونَ قَوْمَهُمْ.
قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )
التوبة: 122
الْهِجْرَةُ الرَّابِعَةُ: هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ لِيَأْتِيَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ
يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ.
الْهِجْرَةُ
الْخَامِسَةُ: هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ،
غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْهِجْرَةُ
مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ
مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَضِيلَةَ الْهِجْرَةِ
وَإِنَّمَا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تُسَمَّى أُمَّ قَيْسٍ
ذكر ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (1/74-75):
وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ قِصَّةَ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ
هِيَ كَانَتْ سَبَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا،»
وَذَكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَمْ نَرَ
لِذَلِكَ أَصْلًا بِإِسْنَادٍ يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
«فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَجَوَابُهُ:
أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً
وَقَصْدًا، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا
فائدة: ذكر ابن رجب أن العمل لغير الله على أقسام:
فتارة يكون رياء محضا لا يقصد به سوى مراءاة المخلوقين لتحصيل
غرض دنيوي، هذا لا يكاد يصدر من مؤمن، ولا شك في أنه يحبط العمل وأن صاحبه يستحق
المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله
فإن النصوص الصحيحة تدل على بطلانه وإن كان اصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء،
ودفعه صاحبه فإن ذلك لا يضره بغير خلاف، وقد اختلف العلماء من السلف في الاسترسال
في الرياء الطارئ: هل يحبط العمل أو لا يضر فاعله ويجازى على أصل نيته؟ أهـ بتصرف
وللنية في الشرع حالتان:
أحدها: الإخلاص في العمل لله وحده، هو المعنى الأسمى، وهذا
يتحدث عنه علماء التوحيد، والسير، والسلوك.
الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا يتحدث عنه الفقهاء
ما يؤخذ من الحديث:
1- إن مدار الأعمال على النيات، صحة،
وفَساداً، وكمالا، ونقصا، وطاعة ومعصية فمن قصد بعمله الرياء أثم، ومن قصد بالجهاد
مثلا إعلاء كلمة الله فقط كمل ثوابه. ومن قصد ذلك والغنيمة معه نقص من ثوابه. ومن
قصد الغنيمة وحدها لم يأثم ولكنه لا يعطى أجر المجاهد. فالحديث مسوق لبيان أن كل
عمل، طاعة كان في الصورة أو معصية يختلف باختلاف النيات.
2- أن النية شرط أساسي في العمل، ولكن بلا
غُلُوّ في استحضارها يفسد على المتعبد عبادته. فإن مجرد قصد العمل يكون نِيًة له
بدون تكلف استحضارها وتحقيقها.
3- أن النية مَحلُّها القلب، واللفظ بها
بدعة.
4- وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل
الدنيا، مادام أن شيئاً من ذلك يفسد العبادة
5- وجوب الاعتناء بأعمال القلوب ومراقبتها.
6- أن الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد
الإسلام، من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى
الْحَدِيثُ الْثَّاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»
قَدْ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ بِانْتِفَاءِ
الْقَبُولِ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ. وَالْمَقْصُودُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ: الِاسْتِدْلَال عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ
فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ
الْقَبُولِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى: " الْحَدَثِ
" فَقَدْ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: الْخَارِجُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي يَذْكُرُهُ
الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. وَيَقُولُونَ: الْأَحْدَاثُ كَذَا
وَكَذَا.
الثَّانِي: نَفْسُ خُرُوجِ ذَلِكَ الْخَارِجِ.
الثَّالِثُ: الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْخُرُوجِ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ قَوْلُنَا " رَفَعْت
الْحَدَثَ " وَ " نَوَيْت رَفْعَ الْحَدَثِ " فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَالْخُرُوجِ قَدْ وَقَعَ
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صلاة المحدث لا تقبل حتى يتطهر من
الحدثين الأكبر والأصغر.
2- أن الحدث ناقض للوضوء ومبطل للصلاة، إن
كان فيها.
3- المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة
وعدم إجزائها.
4- الحديث يدل على أن الطهارة شرط لصحة
الصلاة
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ»
الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْأَعْضَاءِ
بِالْمُطَهِّرِ، وَأَنْ تَرْكَ الْبَعْضِ مِنْهَا غَيْرُ مُجْزِئٍ.
وَنَصُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْقَابِ. وَسَبَبُ
التَّخْصِيصِ: أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ. وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رَأَى قَوْمًا وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ
". وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ:
الْأَعْقَابُ الَّتِي رَآهَا كَذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ. وَيُحْتَمَلُ
أَنْ لَا تُخَصَّ بِتِلْكَ الْأَعْقَابِ الَّتِي رَآهَا كَذَلِكَ. وَتَكُونُ
الْأَعْقَابُ الَّتِي صِفَتُهَا هَذِهِ الصِّفَةُ، أَيْ الَّتِي لَا تُعَمَّمُ بِالْمُطَهِّرِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ الْمُطْلَقِ
وَيُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ " الْعَقِبَ
" مَحَلٌّ لِلتَّطْهِيرِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ يَكْتَفِي بِالتَّطْهِيرِ
فِيمَا دُونَ ذَلِكَ
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الاعتناء بأعضاء الوضوء، وعدم
الإخلال بشيء منها. وقد نص الحديث على القدمين وبقية الأعضاء مقيسة عليهما. مع وجود
نصوص لها.
2- الوعيد الشديد للمخل في وضوئه
3- أن الواجب في الرجلين الغسل في الوضوء، وهو ما تضافرت عليه
الأدلة الصحيحة، وإجماع الأمة، خلافا لشذوذ الشيعة الذين خالفوا به جماهير الأمة،
وخالفوا به الأحاديث الثابتة في فعله وتعليمه صلى الله عليه وسلم للصحابة إياه،
كما خالفوا القياس المستقيم من أن الغسل للرجلين أولى وأنقى من المسح، فهو أشد
مناسبة وأقرب إلى المعنى
Posting Komentar untuk "شرح حديث 1-3 من عمدة الأحكام"